الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: دلائل الإعجاز **
بسم الله الرحمن الرحيم اللفظ والاستعارة وشواهد تحليلية للمعنى اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي يسري في العروق ويفسد مزاج البدن وجب أن يتوخى دائباً فيهم ما يتوخاه الطبيب في الناقه من تعهده بما يزيد في منته ويبقيه على صحته ويؤمنه النكس في علته. وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي. فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات وأداهم إلى التعلق بالمحالات وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساساً وبنوا على قاعدة فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث. وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة وأن يكون لها مرجع إلى المعنى من حيث إن ذلك زعموا يؤدي إلى التناقض وأن يكون معناهما متغايراً وغير متغاير معاً. ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا ناب به موضعه. إلى سائر ما ذكرناه قبل فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف. ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصة التي حدثت فيه ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة وسط الطريق يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدوي وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير. وما يعنونه إذا قالوا: إنه يأخذ الحديث فيشنفه ويقرطه ويأخذ المعنى خرزة فيرده جوهرة وعباءة فيجعله ديباجة ويأخذه عاطلاً فيجعله حالياً. وليس كون هذا مرادهم بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباه. ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله وتولى الأمر غير البصير به أعضل الداء واشتد البلاء. ولو لم يكن من الدليل على أنهم لم ينحلوا اللفظ الفضيلة وهم يريدونه نفسه وعلى الحقيقة إلا واحد وهو وصفهم له بأنه يزين المعنى وأنه حلي له لكان فيه الكفاية. وذاك أن الألفاظ أدلة على المعاني وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه. فأما أن يصير بالدليل على صفة لم يكن عليها فمما لا يقوم في عقل ولا يتصور في وهم. ومما إذا تفكر فيه العاقل أطال التعجب من أمر الناس ومن شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا الآخذ والسرقة: إن من أخذ معنى عارياً فكساه لفظاً من عنده كان أحق به. وهو كلام مشهور متداول يقرؤه الصبيان في أول كتاب عبد الرحمن. ثم لا ترى أحداً من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في اللفظ يفكر في ذلك فيقول: من أين يتصور أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدل عليه ثم من أين يعقل أن يجيء الواحد منا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده إن كان المراد باللفظ نطق اللسان ثم هب أنه يصح له أن يفعل ذلك فمن أين يجب إذا وضع لفظاً على معنى أن يصير أحق من صاحبه الذي أخذه منه إن كان هو لا يصنع بالمعنى شيئاً ولا يحدث فيه صفة ولا يكسبه فضيلة. وإذا كان كذلك فهل يكون لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون اللفظ في قولهم: فكساه لفظاً من عنده كان عبارة عن صورة يحدثها الشاعر أو غير الشاعر للمعنى فإن قالوا: بلى يكون وهو أن يستعير للمعنى لفظاً قيل: الشأن في أنهم قالوا: إذا أخذ معنى عارياً فكساه لفظاً من عنده كان أحق به. والاستعارة عندكم مقصورة على مجرد اللفظ ولا ترون المستعير يصنع بالمعنى شيئاً وترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه. وإذا كان كذلك فمن أين ليت شعري يكون أحق به فاعرفه. ثم إن أردت مثالاً في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع أبو تمام في بيت أبي نخيلة. وذلك أن أبا نخيلة قال في مسلمة بن عبد الملك من الطويل: أمسلم إني يابن كل خليفة ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرض شكرتك إن الشكر حبل من التقى وما كل من أوليته صالحاً يقضي وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً ولكن بعض الذكر أنبه من بعض فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال من الطويل: لقد زدت أوضاحي امتداداً ولم أكن بهيماً ولا أرضى من الأرض مجهلا ولكن أياد صادفتني جسامها أغر فأوفت بي أغر محجلا وفي كتاب الشعر والشعراء للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن قال: ومن الأمثال القديمة قولهم: " حراً أخاف على جاني كمأة لا قراً " يضرب مثلاً للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره مما لم يخفه فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال من الكامل: وقال لبيد من المنسرح: أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد قال: وأخذه البحتري فأحسن وطغى اقتداراً على العبارة واتساعاً في المعنى فقال من الكامل: # لو أنني أوفي التجارب حقها فيما أرت لرجوت ما أخشاه وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب أيضاً. أنشد لإبراهيم بن المهدي من السريع: يامن لقلب صيغ من صخرة في جسد من لؤلؤ رطب جرحت خديه بلحظي فما برحت حتى اقتص من قلبي ثم قال: قال علي بن هارون: أخذه أحمد بن فنن معنى ولفظاً فقال من الكامل: أدميت باللحظات وجنته فاقتص ناظره من القلب قال: ولكنه بنقاء عبارته وحسن مأخذه قد صار أولى به. ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدث في المعنى وشيئاً طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع فإنه على كل حال لم يقل في البحتري إنه أحسن فطغى اقتداراً على العبارة من أجل حروف أنني أوفي وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء العبارة من أجل حروف: أدميت باللحظات وجنته واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبر عنه واحداً والعبارة اثنتين ثم كانت إحدى العبارتين أفصح من الأخرى وأحسن فإنه ينبغي أن يكون السبب كونها أفصح وأحسن اللفظ نفسه وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين. فلما رأوا أنه إذا قيل في الكلمتين إن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت ولم يكن المعنى في إحداهما حال لا يكون له في الأخرى ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل ولقد غلطوا فأفحشوا لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة معناها ولا يعرض لنظمه وتأليفه كمثل أن يقول في بيت الحطيئة من البسيط: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها واجلس فإنك أنت الآكل اللابس وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد وأن يدخل في قبيل ما يفاضل فيه بين عبارتين بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى. ذلك لأنه لا يكون بذلك صانعاً شيئاً يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام ومستأنف عبارة وقائل شعر. ذاك لأن بيت الحطيئة لم يكن كلاماً وشعراً من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه مجردة معراة من معاني النظم والتأليف بل منها متوخى فيها ما ترى من كون المكارم مفعولاً لدع وكون قوله: لا ترحل لبغيتها جملة أكدت الجملة قبلها وكون اقعد معطوفاً بالواو على مجموع ما مضى وكون جملة أنت الطاعم الكاسي معطوفة بالفاء على اقعد. فالذي يجيء فلا يغير شيئاً من هذا الذي به ن كلاماً وشعراً لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئاً البتة. وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتماً أو سواراً أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة. كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وحروف كلاماً وشعراً من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النحو وأحكامه. فإذاً ليسلمن يتصدى لما ذكرنا من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منها لفظة في معناها إلا أن يسترك عقله ويستخف ويعد معد الذي حكي أنه قال: إني قلت بيتاً هو أشعر من بيت حسان. قال حسان من الكامل: يغشون حتى ماتهر كلابهم لايسألون عن السواد المقبل يغشون حتى كما تهر كلابهم أبداً ولا يسلون من ذا المقبل فقيل: هو بيت حسان ولكنك قد أفسدته! واعلم أنه إنما أتي القوم من قلة نظرهم في الكتب التي وضعها العلماء في اختلاف العبارتين على المعنى الواحد وفي كلامهم في أخذ الشاعر من الشاعر وفي أن يقول الشاعران على الجملة في معنى واحد وفي الأشعار التي دونوها في هذا المعنى. ولو أنهم كانوا أخذوا أنفسهم بالنظر في تلك الكتب وتدبروا ما فيها حق التدبر لكان يكون ذلك قد أيقظهم من غفلتهم وكشف الغطاء عن أعينهم. وقد أردت أن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد قالا في معنى واحد. وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلاً ساذجاً وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب. وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصور. وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلاً وفي الآخر مصوراً مصنوعاً ويكون ذلك إما لأن متأخراً قصر عن متقدم وإما لأن هدي متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي من السريع: مع قول البحتري من الكامل: ليل يصادفني ومرهفة الحشا ضدين أسهره لها وتنامه وقول البحتري من البسيط: ولو ملكت زماعاً ظل يجذبني قوداً لكان ندى كفيك من عقلي مع قول المتنبي من الطويل: وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا وقول المتنبي من الكامل: إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض ومن فوقها والبأس والكرم المحض مع قول البحتري من الكامل: ظللنا نعود الجود من وعكك الذي وجدت وقلنا: اعتل عضو من المجد وقول المتنبي من الكامل: يعطيك مبتدئاً فإن أعجلته أعطاك معتذراً كمن قد أجرما مع قول أبي تمام من الكامل: أخو عزمات فعله فعل محسن إلينا ولكن عذره عذر مذنب كريم متى استوهبت ما أنت راكب وقد لقحت حرب فإنك نازل مع قول البحتري من البسيط: ماض على عزمه في الجود لو وهب ال شباب يوم لقاء البيض ما ندما وقول المتنبي من الخفيف: والذي يشهد الوغى ساكن القل ب كأن القتال فيها ذمام مع قول البحتري من الطويل: لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم على أن ذاك الزي زي محارب وقول أبي تمام من الكامل: الصبح مشهور بغير دلائل من غيره ابتغيت ولا أعلام مع قول المتنبي من الوافر: وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل وقول أبي تمام من الوافر: وفي شرف الحديث دليل صدق لمختبر على الشرف القديم مع قول المتنبي من البسيط: وقول البحتري من الكامل: وأحب آفاق البلاد إلى الفتى أرض ينال بها كريم المطلب مع قول المتنبي من الطويل: وكل امرىء يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب وقول المتنبي من الطويل: يقر له بالفضل من لا يوده ويقضي له بالسعد من لا ينجم مع قول البحتري من الكامل: لا أدعي لأبي العلاء فضيلة حتى يسلمها إليه عداه وقول خالد الكاتب من المتقارب: رقدت ولم ترث للساهر وليل المحب بلا آخر مع قول بشار من الطويل: لخديك من كفيك في كل ليلة إلى أن ترى ضوء الصباح وساد تبيت تراعي الليل ترجو نفاده وليس لليل العاشقين نفاد وقول أبي تمام من الوافر: وقول البحتري من الطويل: تناذر أهل الشرق منه وقائعاً أطاع لها العاصون في بلد الغرب مع قول مسلم من البسيط: لما نزلت على أدنى ديارهم ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد وقول محمد بن بشير من البسيط: افرغ لحاجتنا مادمت مشغولاً فلو فرغت لكنت الدهر مبذولا مع قول أبي علي البصير من الطويل: فقل لسعيد أسعد الله جده: لقد رث حتى كاد ينصرم الحبل فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما تناط بك الآمال ما اتصل الشغل وقول البحتري من الكامل: من غادة منعت وتمنع وصلها فلو أنها بذلت لنا لم تبذل مع قول ابن الرومي من مجزوء الكامل: ومن البلية أنني علقت ممنوعاً منوعا وقول أبي تمام من الطويل: مع قول البحتري من البسيط: إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي: كيف اعتذر وقول أبي تمام من البسيط: قد يقدم العير من ذعر على الأسد مع قول البحتري من الطويل: فجاء مجيء العير قادته حيرة إلى أهرت الشدقين تدمى أظافره وقول معن بن أوس من الطويل: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل مع قول العباس بن الأحنف من البسيط: نقل الجبال الرواسي من أماكنها أخف من رد قلب حين ينصرف وقول أمية بن أبى الصلت من الطويل: عطاؤك زين لامرىء إن أصبته بخير وما كل العطاء يزين! مع قول أبي تمام من البسيط: تدعى عطاياه وفراً وهي إن شهرت كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفاً وقول جرير من الطويل: بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديق مع قول أبي نواس من الطويل: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق وقول كثير من الطويل: إذا ما أرادت خلة أن تزيلنا أبينا وقلنا: الحاجبية أول مع قول أبي تمام من الكامل: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول وقول المتنبي من الطويل: وعند من اليوم الوفاء لصاحب شبيب وأوفى من ترى أخوان مع قول أبي تمام من الطويل: فلا تحسبا هنداً لها الغدر وحدها سجية نفسة كل غانية هند وقول البحتري من الطويل: ولم أر في رنق الصرى لي مورداً فحاولت ورد النيل عند احتفاله قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا وقول المتنبي من المنسرح: كأنما يولد الندى معهم لا صغر عاذر ولا هرم مع قول البحتري من الطويل: عريقون في الإفضال يؤتنف الندى لناشئهم من حيث يؤتنف العمر وقول البحتري من الطويل: فلا تغلين بالسيف كل غلائه ليمضي فإن الكف لا السيف تقطع مع قول المتنبي من الطويل: إذا الهند سوت بين سيفي كريهة فسيفك في كف تزيل التساويا وقول البحتري من الكامل: ساموك من حسد فأفضل منهم غير الجواد وجاد غير المفضل فبذلت فينا ما بذلت سماحة وتكرماً وبذلت ما لم يبذل مع قول أبي تمام من الطويل: أرى الناس منهاج الندى بعدما عفت مهايعه المثلى ومحت لواحبه وقول المتنبي من البسيط: بيضاء تطمع فيما تحت حلتها وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا مع قول البحتري من الكامل: تبدو بعطفة مطمع حتى إذا شغل الخلي ثنت بصدفة مؤيس وقول المتنبي من الكامل: إذكار مثلك ترك إذكاري له إذ لا تريد لما أريد مترجما مع قول أبي تمام من الخفيف: وإذا المجد كان عوني على المر ء تقاضيته بترك التقاضي وقول أبي تمام من الكامل: فنعمت من شمس إذا حجبت بدت من خدرها فكأنها لم تحجب مع قول قيس بن الخطيم من المنسرح: قضى لها الله حين صورها ال خالق ألا يكنها سدف وقول المتنبي من الخفيف: راميات بأسهم ريشها الهد ب تشق القلوب قبل الجلود رمتني بسهم ريشه الكحل لم يجز ظواهر جلدي وهو في القلب جارح وقول بعض شعراء الجاهلية ويعزى إلى لبيد من الكامل: ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ليصحني فإذا السلامة داء مع قول أبي العتاهية من الرجز: أسرع في نقص امرىء تمامه تدبر في إقبالها أيامه وقوله من مجزوء الكامل: أقلل زيارتك الحبي ب تكون كالثوب استجده إن الصديق يمله أن لا يزال يراك عنده مع قول أبي تمام من الطويل: وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدد وقول الخريمي من الرمل: زاد معروفك عندي عظماً أنه عندك محقور صغير تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور كبير مع قول المتنبي من المنسرح: وقول البحتري من الوافر: ألم تر للنوائب كيف تسمو إلى أهل النوافل والفضول مع قول المتنبي من البسيط: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن وقول المتنبي من الطويل: تذلل لها واخضع على القرب والنوى فما عاشق من لا يذل ويخضع مع قول بعض المحدثين من مجزوء الرمل: كن إذا أحببت عبداً للذي تهوى مطيعا لن تنال الوصل حتى تلزم النفس الخضوعا وقول مضرس بن ربعي من الطويل: لعمرك إني بالخليل الذي له علي دلال واجب لمفجع وإني بالمولى الذي ليس نافعي ولا ضائري فقدانه لممتع مع قول المتنبي من الطويل: أما تغلط الأيام في بأن أرى بغيضاً ثنائي أو حبيباً تقرب مظلومة القد في تشبيهه غصناً مظلومة الريق في تشبيهه ضربا مع قوله من الطويل: إذانحن شبهناك بالبدر طالعاً بخسناك حظاً أنت أبهى وأجمل ونظلم إن قسناك بالليث في الوغى لأنك أحمى للحريم وأبسل القسم الثاني: ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويراً وأستاذية على الجملة فمن ذلك وهو من النادر قول لبيد من الرمل: واكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل مع قول نافع بن لقيط من الكامل: وإذا صدقت النفس لم تترك لها أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوب وقول رجل من الخوارج أتي به الحجاج في جماعة من أصحاب قطري فقتلهم ومن عليه ليد كانت عنده وعاد إلى قطري فقال له قطري: عاود قتال عدو الله الحجاج فأبى وقال من الكامل: أأقاتل الحجاج عن سلطانه بيد تقر بأنها مولاته وتحدث الأقوام أن صنائعاً غرست لدي فحنظلت نخلاته مع قول أبي تمام من الطويل: أسربل هجر القول من لو هجوته إذا لهجاني عنه معروفه عندي وقول النابغة من الطويل: إذا ما غدا با لجيش حلق فوقه عصائب طير تهتدي بعصائب جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الصفان أول غالب مع قول أبي نواس من مجزوء الرمل: وإذا مج القنا علقاً وتراءى الموت في صوره راح في ثنيي مفاضته أسد يدمى شبا ظفره تتأيا الطير غدوته ثقة بالشبع من جزره المقصود البيت الأخير. وحكى المرزباني قال: حدثني عمرو الوراق: رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها: أيها المنتاب عن عفره فحسدته. فلم بلغ إلى قوله: قلت له: ما تركت للنابغة شيئاً حيث يقول: إذا ما غدا بالجيش: البيتين فقال اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع. وهذا الكلام من أبي نواس دليل بين في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة. ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئاً لكان قوله: فما أسأت الاتباع: محالاً. لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ. ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى وذلك أن هاهنا معنيين: أحدهما أصل وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدواً كان الظفر له وكان هو الغالب. والآخر فرع وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطاعم من لحوم القتلى. وقد عمد النابغة إلى الأصل الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب فذكره صريحاً وكشف عن وجهه. واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى. وإنها لذلك تحلق فوقه على دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصة فذكر الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحاً فقال كما ترى: ثقة بالشبع من جزره وعول في الأصل الذي هو علمها بأن الظفر يكون للممدوح على الفحوى ودلالة الفحوى على علمها أن الظفر يكون للممدوح هي في أن قال: من جزره. وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له. أفيكون شيء أظهر من هذا في النقل عن صورة إلى صورة أرجع إلى النسق. ومن ذلك قول أبي العتاهية من الخفيف: شيم فتحت من المدح ما قد كان مستغلقاً على المداح مع قول أبي تمام من الكامل: نظمت له خرز المديح مواهب ينفثن في عقد اللسان المفحم وقول أبي وجزة من الوافر: أتاك المجد من هنا وهنا وكنت له كمجتمع السيول مع قول منصور النمري من البسيط: إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تجتمع وقول بشار من البسيط: الشيب كره وكره أن يفارقني أعجب بشيء على البغضاء مودود مع قول البحتري من الوافر: تعيب الغانيات علي شيبي ومن لي أن أمتع بالمعيب وقول أبي تمام من الوافر: مع قول ابن الرومي من الطويل: إمام يظل الأمس يعمل نحوه تلفت ملهوف ويشتاقه الغد لا تنظر إلى أنه قال: يشتاقه الغد فأعاد لفظ أبي تمام ولكن النظر إلى قوله يعمل نحوه تلفت ملهوف. وقول أبي تمام من الطويل: لئن ذمت الأعداء سوء صباحها فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر مع قول المتنبي من المتقارب: وأنبت منهم ربيع السباع فأثنت بإحسانك الشامل وقول أبي تمام من البسيط: ورب نائي المغاني روحه أبداً لصيق روحي ودان ليس بالداني مع قول المتنبي من الوافر: لنا ولأهله أبداً قلوب تلاقى في جسوم ما تلاقى وقول أبي هفان من الرمل: أصبح الدهر مسيئاً كله ما له إلا ابن يحيى حسنه أزالت بك الأيام عتبي كأنما بنوها لها ذنب وأنت لها عذر وقول علي بن جبلة من الكامل: وأرى الليالي ما طوت من قوتي ردته في عظتي وفي إفهامي مع قول ابن المعتز من المتقارب: وما ينتقص من شباب الرجال يزد في نهاها وألبابها وقول بكر بن النطاح من الطويل: لو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله مع قول المتنبي من المنسرح: إنك من معشر إذا وهبوا ما دون أعمارهم فقد بخلوا وقول البحتري من الطويل: ومن ذا يلوم البحر أن بات زاخراً يفيض وصوب المزن أن راح يهطل مع قول المتنبي من البسيط: وما ثناك كلام الناس عن كرم ومن يسد طريق العارض الهطل وقول الكندي من الكامل: إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها أو يطلبوا لا يدركوا بترات مع قول المتنبي من الطويل: تفيت الليالي كل شيء أخذته وهن لما يأخذن منك غوارم وقول أبي تمام من الطويل: إذا سيفه أضحى على الهام حاكماً غدا العفو منه وهو في السيف حاكم مع قول المتنبي من الكامل: له من كريم الطبع في الحرب منتض ومن عادة الإحسان والصفح غامد فانطر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه فإنك ترى عياناً أن للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك صورة وصفة غير صورته وصفته في البيت الآخر. وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا: إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك أن الذي تعقل من هذا لا يخالف الذي تعقل من ذاك. وأن المعنى عائد عليك في البيت الثاني على هيئته وصفته التي كان عليها في البيت الأول وأن لا فرق ولا فصل ولا تباين بوجه من الوجوه وأن حكم البيتين مثلاً حكم الاسمين قد وضعا في اللغة لشيء واحد كالليث والأسد. ولكن قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشيئين يجمعهما جنس واحد ثم يفترقان بخواص ومزايا وصفات كالخاتم والخاتم والشنف والشنف والسوار والسوار وسائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد ثم يكون بينها الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل. ومن هذا الذي ينظر إلى بيت الخارجي وبيت أبي تمام فلا يعلم أن صورة المعنى في ذلك غير صورته في هذا. كيف والخارجي يقول: واحتجت له فعلاته. ويقول أبو تمام: إذا لهجاني عنه معروفه عندي ومتى كان احتج وهجا واحداً في المعنى وكذلك الحكم في جميع ما ذكرناه فليس يتصور في نفس عاقل أن يكون قول البحتري: وأحب آفاق البلاد إلى الفتى أرض ينال بها كريم المطلب وقول المتنبي: وكل مكان ينبت العز طيب سواء. واعلم أن قولنا: الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا. فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان بين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك. وكذلك كان الأمر في المصنوعات فكان تبين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك. ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك. وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء. ويكفيك قول الجاحظ: وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير. واعلم أنه لو كان المعنى في أحد البيتين يكون على هيئته وصفته في البيت الآخر وكان التالي من الشاعرين يجيئك به معاداً على وجهه لم يحدث فيه شيئاً ولم يغير له صفة لكان قول العلماء في شاعر: إنه أخذ المعنى من صاحبه فأحسن وأجاد. وفي أخر: إنه أساء وقصر لغواً من القول من حيث كان محالاً أن يحسن أو يسيء في شيء لا يصنع به شيئاً وكذلك كان يكون جعلهم البيت نظيراً للبيت ومناسباً له خطأ منهم لأنه محال أن يناسب الشيء نفسه وأن يكون نظيراً لنفسه. وأمر ثالث وهو أنهم يقولون في واحد: إنه أخذ المعنى فظهر أخذه وفي آخر: إنه أخذه فأخفى أخذه. ولو كان المعنى يكون معاداً على صورته وهيئته وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئاً غير أن يبدل لفظاً مكان لفظ لكان الإخفاء فيه محالاً. لأن اللفظ لا يخفي المعنى وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها. مثال ذلك أن القاضي أبا الحسن ذكر فيما حليت والحسن تأخذه تنتقي منه وتنتخب وبيت عبد الله بن مصعب من الوافر: كأنك جئت محتكماً عليهم تخير في الأبوة ما تشاء وذكر أنهما معاً من بيت بشار من الطويل: خلقت على مافي غير مخير هواي ولو خيرت كنت المهذبا والأمر في تناسب هذه الثلاثة ظاهر. ثم إنه ذكر أن أبا تمام قد تناوله فأخفاه وقال من الوافر: فلو صورت نفسك لم تزدها على مافيك من كرم الطباع ومن العجب في ذلك ما تراه إذا أنت تأملت قول أبي العتاهية من الكامل: جزي البخيل علي صالحة عني لخفته على ظهري أعلى وأكرم عن يديه يدي فعلت ونزه قدره قدري ورزقت من جدواه عافية أن لايضيق بشكره صدري وغنيت خلواً من تفضله أحنو عليه بأحسن العذر ما فاتني خير امرىء وضعت عني يداه مؤونة الشكر فصرت عبداً للسوء فيك وما أحسن سوءاً قبلي إلى أحد ومما هو في غاية الندرة من هذا الباب ما صنعه الجاحظ بقول نصيب من الطويل: ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب حين نثره فقال: وكتب به إلى ابن الزيات: نحن أعزك الله نسحر بالبيان ونموه بالقول. والناس ينظرون إلى الحال ويقضون بالعيان. فأثر في أمرنا أثراً ينطق إذا سكتنا فإن المدعي بغير بينة متعرض للتكذيب. وهذه جملة من وصفهم للشعر وعمله وإدلالهم به: أبو حية النمري من الكامل: إن القصائد قد علمن بأنني صنع اللسان بهن لا أتنحل وإذا ابتدأت عروض نسج ريض جعلت تذل لما أريد وتسهل حتى تطاوعني ولو يرتاضها غيري لحاول صعبة لا تقبل تميم بن مقبل من الطويل: إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى لها قائلاً بعدي أطب وأشعرا وأكثر بيتاً سائراً ضربت له حزون جبال الشعر حتى تيسرا عدي بن الرقاع من الكامل: وقصيدة قد بت أجمع بينها حتى أقوم ميلها وسنادها نظر المثقف في كعوب قناته حتى يقيم ثقافه منآدها كعب بن زهير من الطويل: فمن للقوافي شانها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوز جرول يقومها حتى تلين متونها فيقصر عنها كل ما يتمثل بشار من الطويل: عميث جنيناً والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم موئلا وغاض ضياء العين للعلم رافداً لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا وشعر كنور الروض لاءمت بينه بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا وله من المنسرح: زور ملوك عليه أبهة يغرف من شعره ومن خطبه لله ما راح في جوانحه من لؤلؤ لا ينام عن طلبه فإن أهلك فقد أبقيت بعدي قوافي تعجب المتمثلينا لذيذات المقاطع محكمات لو أن الشعر يلبس لارتدينا الفرزدق من الوافر: بلغن الشمس حين تكون شرقاً ومسقط قرنها من حيث غابا بكل ثنية وبكل ثغر غرائبهن تنتسب انتسابا ابن ميادة من الطويل: فجرنا ينابيع الكلام وبحره فأصبح فيه ذو الرواية يسبح وما الشعر إلا شعر قيس وخندف وشعر سواهم كلفة وتملح وقال عقال بن هشام القيني يرد عليه من الطويل: ألا بلغا الرماح نقض مقالة بها خطل الرماح أو كان يمزح لئن كان في قيس وخندف ألسن طوال وشعر سائر ليس يقدح لقد خرق الحي اليمانون قبلهم بحور الكلام تستقى وهي طفح وهم علموا من بعدهم فتعلموا وهم أعربوا هذا الكلام وأوضحوا كشفت قناع الشعر عن حر وجهه وطيرته عن وكره وهو واقع بغر يراها من يراها بسمعه ويدنو إليها ذو الحجا وهو شاسع يود وداداً أن أعضاء جسمه إذا أنشدت شوقاً إليها مسامع وله من الكامل: حذاء تملأ كل أذن حكمة وبلاغة وتدر كل وريد كالدر والمرجان ألف نظمه بالشذر في عنق الفتاة الرود كشقيقة البرد المنمنم وشيه في أرض مهرة أو بلاد تزيد يعطي بها البشرى الكريم ويرتدي بردائها في المحفل المشهود بشرى الغني أبي البنات تتابعت بشراؤه بالفارس المولود وله من الكامل: جاءتك من نظم اللسان قلادة سمطان فيها اللؤلؤ المكنون أحذاكها صنع الضمير يمده جفر إذا نضب الكلام معين أخذ لفظ الصنع من قول أبي حية: بأنني صنع اللسان بهن لا أتنحل ونقله إلى الضمير. وقد ولأبي تمام من الطويل: إليك أرحنا عازب الشعر بعدما تمهل في روض المعاني العجائب غرائب لاقت في فنائك أنسها من المجد فهي الآن غير غرائب ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت حياضك منه في السنين الذواهب ولكنه صوب العقول إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب البحتري من الطويل: ألست الموالي فيك نظم قصائد هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما ثناء كأن الروض منه منوراً ضحى وكأن الوشي منه منمنما وله من البسيط: أحسن أبا حسن بالشعر إذ جعلت عليك أنجمه بالمدح تنتثر فقد أتتك القوافي غب فائدة كما تفتح غب الوابل الزهر وله من الطويل: إليك القوافي نازعات قواصد يسير ضاحي وشيها وينمنم بمنقوشة نقش الدنانير ينتقى لها اللفظ مختاراً كما ينتقى التبر وله من الطويل: أيذهب هذا الدهر لم ير موضعي ولم يدر ما مقدار حلي ولا عقدي ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد يبيع ثمينات المكارم والمجد سوائر شعر جامع بدد العلى تعلقن من قبلي وأتعبن من بعدي يقدر فيها صانع متعمل لإحكامها تقدير داود في السرد وله من الكامل: الله يسهر في مديحك ليله متململاً وتنام دون ثوابه يقظان ينتحل الكلام كأنه جيش لديه يريد أن يلقى به فأتى به كالسيف رقرق صيقل ما بين قائم سنخه وذبابه ومن نادر وصفه للبلاغة قوله من الخفيف: في نظام من البلاغة ماشك ك امرؤ أنه نظام فريد وبديع كأنه الزهر الضا حك في رونق الربيع الجديد ومعان لو فصلتها القوافي هجنت شعر جرول ولبيد حزن مستعمل الكلام اختياراً وتجنبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدرك ن به غاية المراد البعيد كا لعذارى غدون في الحلل الصف ر إذا رحن في الخطوط السود الغرض من كتب هذه الأبيات الاستظهار حتى إن حمل حامل نفسه على الغرر والتقحم على غير بصيرة فزعم أن الإعجاز في مذاقة الحروف وفي سلامتها مما يثقل على اللسان علم بالنظر فيها فساد ظنه وقبح غلطه من حيث يرى عياناً أن ليس كلامهم كلام من خطر ذلك منه ببال ولا صفاتهم صفات تصلح له على حال إذ لا يخفى على عاقل أن لم يكن ضرب تميم لحزون جبال الشعر لأن تسلم ألفاظه من حروف تثقل على اللسان ولا كان تقويماعدي لشعره ولا تشبيهه نظره فيه بنظر المثقف في كعوب قناته لذلك وأنه محال أن يكون له جعل بشار نور العين قد غاض فصار إلى قبله وأن يكون اللؤلؤ الذي كان لا ينام عن طلبه وأن ليس هو صوب العقول الذي إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب وأن ليس هو الدر والمرجان مؤلفاً بالشذر في العقد ولا الذي له كان البحتري مقدراً تقدير داود في السرد. كيف وهذه كلها عبارات عما يدرك بالعقل ويستنبط بالفكر وليس الفكر الطريق إلى تمييز ما يثقل على اللسان مما لا يثقل إنما الطريق إلى ذلك الحس. ولولا أن البلوى قد عظمت بهذا الرأي الفاسد وأن الذين قد استهلكوا فيه قد صاروا من فرط شغفهم به يصغون إلى كل شيء يسمعونه. حتى لو أن إنساناً قال: باقلى حار يريهم أنه يريد نصرة مذهبهم لأقبلوا بأوجههم عليه فألقوا أسماعهم إليه لكان اطراحه وترك الاشتغال به أصوب لأنه قول لا يتصل منه جانب بالصواب البتة. ذلك لأنه أول شيء يؤدي إلى أن يكون القرآن معجزاً لا بما به كان قرآناً وكلام الله عز وجل لأنه على كل حال إنما كان قرآناً وكلام الله عز وجل بالنظم الذي هو عليه. ومعلوم أن ليس النظم من مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان في شيء. ثم إنه اتفاق من العقلاء أن الوصف الذي به تناهى القرآن إلى حد عجز عنه المخلوقون هو الفصاحة والبلاغة وما رأينا عاقلاً جعل القرآن فصيحاً أو بليغاً بأن لا يكون في حروفه ما يثقل على اللسان لأنه لو كان يصح ذلك لكان يجب أن يكون السوقي الساقط من الكلام والسفساف الرديء من الشعر فصيحاً إذا خفت حروفه. وأعجب من هذا أنه يلزم منه أنه لو عمد عامد إلى حركات الإعراب فجعل مكان كل ضمة وكسرة فتحة فقال: الحمد لله بفتح الدال واللام والهاء وجرى على هذا في القرآن كله أن لا يسلبه ذلك الوصف الذي هو معجز به بل كان ينبغي أن يزيد فيه لأن الفتحة كما لا يخفى أخف من كل واحدة من الضمة والكسرة. فإن قال: إن ذلك يحيل المعنى. قيل له: إذا كان المعنى والعلة في كونه معجزاً خفة اللفظ وسهولته فينبغي أن يكون مع إحالة المعنى معجزاً. لأنه إذا كان معجز الوصف يخص لفظه دون معناه كان محالاً أن يخرج عن كونه معجزاً مع قيام ذلك الوصف فيه. ودع هذا وهب أنه لا يلزم شيء منه. فإنه يكفي في الدلالة على سقوطه وقلة تمييز القائل به أن يقتضي إسقاط الكناية والاستعارة والتمثيل والمجاز والإيجاز جملة واطراح جميعها رأساً مع أنها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها والأعضاد التي تستند الفصاحة إليها والطلبة التي يتنازعها المحسنون والرهان الذي تجرب فيه الجياد والنضال الذي تعرف به الأيدي الشداد وهي التي نوه بذكرها البلغاء ورفع من أقدارها العلماء وصنفوا فيها الكتب ووكلوا بها الهمم وصرفوا إليها الخواطر حتى صار الكلام فيها نوعاً من العلم مفرداً وصناعة على حدة ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزية وخصوصاً الاستعارة والإيجاز. فإنك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون وأول ما يوردون وتراهم يذكرون من الاستعارة قوله عز وجل: " وتراهم على لسان واحد في أن المجاز والإيجاز من الأركان في أمر الإعجاز. وإذا كان الأمر كذلك عند كافة العلماء الذين تكلموا في المزايا التي للقرآن فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه إلى الغرور فيزعم أن الوصف الذي كان له القرآن معجزاً هو سلامة حروفه مما يثقل على اللسان. أيصح له القول بذلك إلا من بعد أن يدعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه والخطأ فيما أجمعوا عليه وإذا نظرنا وجدناه لا يصح له ذلك إلا بأن يقتحم هذه الجهالة. اللهم إلا أن يخرج إلى الضحكة فيزعم مثلاً أن من شأن الاستعارة والإيجاز إذا دخلا الكلام أن يحدث بهما في حروفه خفة ويتجدد فيها سهولة ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. واعلم أنا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلاً فيما يوجب الفضيلة وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز. وإنما الذي ننكره ونفيل رأي من يذهب إليه أن يجعله معجزاً به وحده ويجعله الأصل والعمدة فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات ثم إن العجب كل العجب ممن يجعل كل الفضيلة في شيء هو إذا انفرد لم يجب فضل البتة ولم يدخل في اعتداد بحال. وذلك أنه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ وسلامتها مما يثقل على اللسان اعتداد حتى يكون قد ألف منها كلام. ثم كان ذلك الكلام صحيحاً في نظمه والغرض الذي أريد به. وأنه لو عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى ويؤلف منها كلاماً لم تر عاقلاً يعتد السهولة فيها فضيلة. لأن الألفاظ لا تراد لأنفسها وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني. فإذا عدمت الذي له تراد اختل أمرها فيه لم يعتد بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحداً. ومن هاهنا رأيت العلماء يذمون من يحمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضم لهما المعنى ويدخل الخلل عليه من أجلهما وعلى أن يتعسف في الاستعارة بسببهما ويركب الوعورة ويسلك المسالك المجهولة كالذي صنع أبو تمام في قوله من البسيط: سيف الإمام الذي سمته هيبته لما تخرم أهل الأرض مخترما قرت بقران عين الدين وانتشرت بالأشترين عيون الشرك فاصطلما وقوله من الكامل: ذهبت بمذهبه السماحة والتوت فيه الظنون أمذهب أم مذهب ويصنعه المتكلفون في الأسجاع وذلك أنه لا يتصور أن يجب بهما ومن حيث هما فضل ويقع بهما مع الخلو من المعنى اعتداد. وإذا نظرت إلى تجنيس أبي تمام: أمذهب أم مذهب فاستضعفته وإلى تجنيس القائل من البسيط: حتى نجا من خوفه وما نجا وقول المحدث من الخفيف: ناظراه فيما جنى ناظراه أو دعاني أمت بما أودعاني فاستحسنته لم تشك بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللفظ ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول وقويت في الثاني. وذلك أنك رأيت أبا تمام لم يزدك ب مذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة لا تجد لها فائدة إن وجدت إلا متكلفة متمحلة. ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك في الفائدة وقد أعطاها. ويوهمك أنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها. ولهذه النكتة كان التجنيس وخصوصاً نمستوفى منه مثل: نجا ونجا من حلي الشعر. والقول فيما يحسن وفيما لا يحسن من التجنيس والسجع يطول. ولم يكن غرضنا من ذكرهما شرح أمرهما ولكن توكيد ما انتهى بنا القول إليه من استحالة أن يكون الإعجاز في مجرد السهولة وسلامة الألفاظ مما يثقل على اللسان. وجملة الأمر أنا ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطرح النظم والمحاسن التي هو السبب فيها في الاستعارة والكناية والتمثيل وضروب المجاز والإيجاز وصد بوجهه عن جميعها وجعل الفضل كله والمزية أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل كيف وهو يؤدي إلى السخف والخروج من العقل كما بينا. واعلم أنه قد آن لنا أن نعود إلى ما هو الأمر الأعظم والغرض الأهم والذي كأنه هو الطلبة وكل ما عداه ذرائع إليه وهو المرام وما سواه أسباب للتسلق عليه. وهو بيان العلل التي لها وجب أن يكون لنظم مزية على نظم وأن يعم أمر التفاضل فيه ويتناهى إلى الغايات البعيدة. ونحن نسأل الله تعالى العون على ذلك والتوفيق له والهداية إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم أهمية السياق للمعنى ما أظن بك أيها القارىء لكتابنا إن كنت وفيته حقه من النظر وتدبرته حق التدبر إلا أنك قد علمت علماً أبى أن يكون للشك فيه نصيب وللتوقف نحوك مذهب أن ليس النظم شيئاً إلا توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم. وأنك قد تبينت أنه إذا رفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل خرجت الكلم المنطوق ببعضها في أثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتض وعن أن يتصور أن يقال في كلمة منها إنها مرتبطة بصاحبة لها ومتعلقة بها وكائنة بسبب منها وأن حسن تصورك لذلك قد ثبت فيه قدمك وملأ من الثقة نفسك وباعدك من أن تحن إلى الذي كنت عليه وأن يجرك الإلف والاعتياد إليه وأنك جعلت ما قلناه نقشاً في صدرك وأثبته في سويداء قلبك وصادقت بينه وبين نفسك. فإن كان الأمر كما ظنناه رجونا أن يصادف الذي نريد أن نستأنفه بعون الله تعالى منك نية حسنة تقيك الملل ورغبة صادقة تدفع عنك السأم وأريحية يخف معها عليك تعب الفكر وكد النظر. والله تعالى ولي توفيقك وتوفيقنا بمنه وفضله. ونبدأ فنقول: فإذا ثبت الآن أن لا شك ولا مرية في أن ليس النظئم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه ولم يعلم أنها معدنه ومعانه وموضعه ومكانه وأنه لا مستنبط له سواها وأن لا وجه لطلبه فيما عداها غار نفسه بالكاذب من الطمع ومسلم لها إلى الخدع وأنه إن أبى أن يكون فيها كان قد أبى أن يكون القرآن معجزاً بنظمه ولزمه أن يثبت شيئاً آخر يكون معجزاً به وأن يلحق بأصحاب الصرفة فيدفع الإعجاز من أصله. وهذا تقرير لا يدفعه إلا معاند يعد الرجوع عن باطل قد اعتقد عجزاً والثبات عليه من بعد لزوم الحجة جلداً ومن وضع نفسه في هذه المنزلة كان قد باعدها من الإنسانية. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. وهذه أصول يحتاج إلى معرفتها قبل الذي عمدنا به. اعلم أن معاني الكلام كلها معان لا تتصور إلا فيما بين شيئين. والأصل والأول هو الخبر. وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع. ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه لأنه ينقسم إلى إثبات ونفي. والإثبات يقتضي مثبتاً ومثبتاً له. والنفي يقتضبي منفياً ومنفياً عنه. فلو حاولت أن يتصور إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه حاولت ما لا يصح في عقل ولا يقع في وهم. ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى شيء مظهر أو مقدر مضمر. وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوت تصوته سواء. وإن أردت أن تستحكم معرفة ذلك في نفسك فانظر إليك إذا قيل لك: ما فعل زيد فقلت: خرج. هل يتصور أن يقع في خلدك من خرج معنى من دون أن تنوي فيه ضمير زيد. وهل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلا مخرجاً نفسك إلى الهذيان وكذلك فانظر إذا قيل لك: كيف زيد فقلت: صالح هل يكون لقولك: صالح أثر في نفسك من دون أن تريد هو صالح أم هل يعقل السامع منه شيئاً إن هو لم يعتقد ذلك. فإنه مما لا يبقى معه لعاقل شك أن الخبر معنى لا يتصور إلا بين شيئين يكون أحدهما مثبتاً والآخر مثبتاً له أو يكون أحدهما منفياً والآخر منفياً عنه وأنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له ومنفي من دون منفي عنه. ولما كان الأمر كذلك أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل. واسم كقولنا: خرج زيد أو اسم واسم كقولنا: زيد منطلق. فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل وبغير هذا الدليل. وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمة و حكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة. وإذ قد عرفت أنه لا يتصور الخبر إلا فيما بين شيئين: مخبر به ومخبر عنه فينبغي أن يعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث. وذلك أنه كما لا يتصور أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه. كذلك لا يتصور أن يكون خبر حتى يكون له مخبر يصدر عنه ويحصل من جهته ويكون له نسبة إليه وتعود التبعة فيه عليه. فيكون هو الموصوف بالصدق إن كان صدقاً وبالكذب إن كان كذباً. أفلا ترى أن من المعلوم أنه لا يكون إثبات ونفي حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته ويكون هو المزجي لهما والمبرم والناقض فيهما ويكون بهما موافقاً ومخالفاً ومصيباً ومخطئاً ومحسناً ومسيئاً. وجملة الأمر أن الخبر وجميع الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه ويراجع فيها عقله وتوصف بأنها مقاصد وأغراض وأعظمها شأناً الخبر فهو الذي يتصور بالصور الكثيرة وتقع فيه الصناعات العجيبة. وفيه يكون في الأمر الأعم المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة كما شرحنا فيما تقدم ونشرحه فيما نقول من بعد إن شاء الله تعالى. واعلم أنك إذا فتشت أصحاب اللفظ عما في نفوسهم وجدتهم قد توهموا في الخبر أنه صفة للفظ وأن المعنى في كونه إثباتاً أنه لفظ يدل على وجود المعنى من الشيء أو فيه وفي كونه نفياً أنه لفظ يدل على عدمه وانتفائه عن الشيء. وهو شيء قد لزمهم وسرى في عروقهم وامتزج بطباعهم حتى صار الظن بأكثرهم أن القول لا ينجع فيهم. والدليل على بطلان ما اعتقدوه أنه محال أن يكون اللفظ قد نصب دليلاً على شيء ثم لا يحصل منه لعلم بذلك الشيء إذ لا معنى لكون الشيء دليلاً إلا إفادته إياك العلم بما هو دليل عليه. وإذا كان هذا كذلك علم منه أن ليس الأمر على ما قالوه من أن المعنى في وصفنا اللفظ بأنه خبر أنه قد وضع لأن يدل على وجود المعنى أو عدمه لأنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن لا يقع من سامع شك في خبر يسمعه وأن لا تسمع الرجل يثبت وينفي إلا علمت وجود ما أثبت وانتفاء ما نفى. وذلك مما لا يشك في بطلانه. وإذا لم يكن ذلك مما يشك في بطلانه وجب أن يعلم أن مدلول اللفظ ليس هو وجود المعنى أو عدمه ولكن الحكم بوجود المعنى أو عدمه وأن ذلك أي الحكم بوجود المعنى أو عدمه حقيقة الخبر. إلا أنه إذا كان بوجود المعنى من الشيء أو فيه يسمى إثباتاً. وإذا كان بعدم المعنى وانتفائه عن الشيء يسمى نفياً ومن الدليل على فساد ما زعموه أنه لو كان معنى الإثبات الدلالة على وجود المعنى وإعلامه السامع أيضاً لكان ينبغي إذا قال واحد: زيد عالم وقال أخر: زيد ليس بعالم أن يكون قد دل هذا على وجود العلم وهذا على عدمه. وإذا قال الموحد: العالم محدث وقال الملحد: هو قديم أن يكون قد دل الموحد على حدوثه والملحد على قدمه وذلك ما لا يقوله عاقل. تقرير لذلك بعبارة أخرى: لا يتصور أن تفتقر المعاني المدلول عليها بالجمل المؤلفة إلى دليل يدل عليها زائد على اللفظ. كيف وقد أجمع العقلاء على أن العلم بمقاصد الناس في محاوراتهم علم ضرورة. ومن ذهب مذهباً يقتضي أن لا يكون الخبر معنى في نفس المتكلم ولكن يكون وصفاً للفظ من أجل دلالته على وجود المعنى من الشيء أو فيه أو انتفاء وجوده عنه كان قد نقض منه الأصل الذي قدمناه من حيث يكون قد جعل المعنى المدلول عليه باللفظ لا يعرف إلا بدليل سوى اللفظ ذاك لأنا لا نعرف وجود المعنى المثبت وانتفاء المنفي باللفظ. ولكنا نعلمه بدليل يقوم لنا زائد على اللفظ. وما من عاقل إلا وهو يعلم ببديهة النظر أن المعلوم بغير اللفظ لا يكون مدلول اللفظ. طريقة أخرى: الدلالة على الشيء هي لا محالة إعلامك السامع إياه وليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولاً عليه. وإذا كان كذلك وكان مما يعلم ببدائه المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضاً ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره وما هو أهو أن يعلم السامع وجود المخبر به من المخبر عنه. أم أن يعلمه إثبات المعنى المخبر به للمخبر عنه فإن قيل: إن المقصود إعلامه السامع وجود المعنى من المخبر عنه. فإذا قال: ضرب زيد كان مقصوده أن يعلم السامع وجود الضرب من زيد وليس الإثبات إلا إعلامه السامع وجود المعنى قيل له: فالكافر إذا أثبت مع الله تعالى عما يقول الظالمون إلهاً آخر يكون قاصداً أن يعلم نعوذ بالله تعالى أن مع الله تعالى إلهاً آخر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وكفى بهذا فضيحة. وجملة الأمر أنه ينبغي أن يقال لهم: أتشكون في أنه لا بد من أن يكون لخبر المخبر معنى يعلمه السامع علماً لا يكون معه شك ويكون ذلك معنى اللفظ وحقيقته. فإذا قالوا لا نشك. قيل لهم: فما ذلك المعنى فإن قالوا: هو وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه إذا كان الخبر إثباتاً وانتفاؤه عنه إذا كان نفياً لم يمكنهم أن يقولوا ذلك إلا من بعد أن يكابروا فيدعوا أنهم إذا سمعوا الرجل يقول: خرج زيد علموا علماً لا شك معه وجود الخروج من زيد. وكيف يدعون ذلك وهو يقتضي أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبداً وأن لا يجوز فيه أن يقع على خلاف المخبر عنه. وأن يكون العقلاء قد غلطوا حين جعلوا من خاص وصفه أنه يحتمل الصدق والكذب وأن يكون الذي قالوه في أخبار الآحاد وأخبار التواتر من أن العلم يقع بالتواتر دون الآحاد سهواً منهم. ويقتضي الغنى عن معجزة لأنه إنما احتيج إليها ليحصل العلم بكون الخبر على وفق المخبر عنه. فإذا كان لا يكون إلا على وفق المخبر عنه لم تقع الحاجة إلى دليل يدل على كونه كذلك فاعرفه. واعلم أنه إنما لزمهم ما قلناه من أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبداً من حيث إذا كان معنى الخبر عندهم إذا كان إثباتاً أنه لفظ موضوع ليدل على وجود المعنى المخبر من المخبر عنه أو فيه وجب أن يكون كذلك أبداً وأن لا يصح أن يقال: ضرب زيد إذا كان الضرب قد وجد من زيد. وكذلك يجب في النفي أن لا يصح أن يقال: ما ضرب زيد إلا إذا كان الضرب لم يوجد منه لأن تجويز أن يقال: ضرب زيد من في أن يكون قد كان منه ضرب وأن يقال: ما ضرب زيد. وقد كان منه ضرب يوجب على أصلهم إخلاء اللفظ من معناه الذي وضع ليدل عليه وذلك ما لا يشك في فساده ولا يلزمنا على حلنا لأن معنى اللفظ عندنا هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه إذا كان الخبر إثباتاً والحكم بعدمه إذا كان نفياً. واللفظ عندنا لا ينفك من ذلك ولا يخلو منه. وذلك لأن قولنا: ضرب وما ضرب يدل من قول الكاذب على نفس ما يدل عليه من قول الصادق. لأنا إن لم نقل ذلك لم يخل من أن يزعم أن الكاذب يخلي اللفظ من المعنى أو يزعم أنه يجعل للفظ معنى غيرما وضع له وكلاهما باطل. ومعلوم أنه لا يزال يدور في كلام العقلاء في وصف الكاذب أنه يثبت ما ليس بثابت نفي ما ليس بمنتف. والقول بما قالوه يؤدي إلى أن يكون العقلاء قد قالوا المحال من حيث يجب على أصلهم أن يكونوا قد قالوا: إن الكاذب يدل على وجود ما ليس بموجود وعلى عدم ما ليس بعلوم وكفى بهذا تهافتاً وخطلاً ودخولاً في اللغو من القول. وإذا اعتبرنا أصلنا كان تفسيره أن الكاذب يحكم بالوجود فيما ليس بموجود وبالعدم فيما ليس بمعدوم. وهو أسد كلام وأحسنه. والدليل على أن اللفظ من قول الكاذب يدل على نفس ما يدل عليه من قول الصادق جعلوا خاص وصف الخبر أنه يحتمل الصدق والكذب. فلولا أن حقيقته فيهما حقيقة واحدة لما كان لحدهم هذا معنى. ولا يجوز أن يقال: إن الكاذب يأتي بالعبارة على خلاف المعبر عنه لأن ذلك إنما يقال فيمن أراد شيئاً ثم أتى بلفظ لا يصلح للذي أراد. ولا يمكننا أن نزعم في الكاذب ومما ينبغي أن يحصل في هذا الباب أنهم قد أصلوا في المفعول وكل ما زاد على جزءي الجملة أن يكون زيادة في الفائدة. وقد يخيل إلى من ينظر إلى ظاهر هذا من كلامهم أنهم أرادوا بذلك أنك تضم بما تزيده على جزءي الجملة فائدة أخرى وينبني عليه أن ينقطع عن الجملة حتى يتصور أن يكون فائدة على حدة وهو ما لا يعقل إذ لا يتصور في زيد من قولك: ضربت زيداً أن يكون شيئاً برأسه حتى يكون بتعديتك ضربت إليه قد ضممت فائدة إلى أخرى. وإذا كان ذلك وجب أن يعلم أن الحقيقة في هذا أن الكلام يخرج بذكر المفعول إلى معنى غير الذي كان وأن وزان الفعل قد عدي إلى مفعول معه وقد أطلق فلم يقصد به إلى مفعول دون مفعول وزان الاسم المخصص بالصفة مع الاسم المتروك على شياعه كقولك: جاءني رجل ظريف لا مع قولك: جاءني رجل في أنك لست في ذلك كمن يضم معنى إلى معنى وفائدة إلى فائدة ولكن كمن يريد هاهنا شيئاً وهناك شيئاً آخر. فإذا قلت: ضربت زيداً كان المعنى غيره إذا قلت: ضربت ولم تزد زيداً. وهكذا يكون الأمر أبداً كلما زدت شيئاً وجدت المعنى قد صار غير الذي كان. ومن أجل ذلك صلح المجازاة بالفعل الواحد إذا أتى به مطلقاً في الشرط ومعدى إلى شيء في الجزاء كقوله تعالى: " فلولا أن المعنى في أحسنتم الثانية غير المعنى في الأولى وأنها في حكم فعل ثان لما ساغ ذلك. كما لا يسوغ أن تقول: إن قمت قمت وإن خرجت خرجت. ومثله من الكلام قوله: المرء بأصغريه إن قال قال ببيان وإن صال صال بجنان ويجري ذلك في الفعلين قد عديا جميعاً إلا أن الثاني منهما قد تعدى إلى شيء زائد على ما تعدى إليه الأول. ومثاله قولك: إن أتاك زيد أتاك لحاجة. وهو أصل كبير والأدلة على ذلك كثيرة ومن أولاها بأن يحفظ أنك ترى البيت قد استحسنه الناس وقضوا لقائله بالفضل فيه وبأنه الذي غاص على معناه بفكره وأنه أبو عذره ثم لا ترى الحسن وتلك الغرابة كانا إلا لما بناه على الجملة دون نفس الجملة. ومثال ذلك قول الفرزق من الطويل: وما حملت أم امريء في ضلوعها أعق من الجاني عليها هجائيا فلولا أن معنى الجملة يصير بالبناء عليها شيئاً غير الذي كان ويتغير في ذاته لكان محالاً أن يكون البيت بحيث تراه من الحسن والمزية. وأن يكون معناه خاصاً بالفرزدق وأن يقضي له بالسبق إليه إذ ليس في الجملة التي بني عليها ما يوجب شيئاً من ذلك فاعرفه. والنكتة التي يجب أن تراعى في هذا أنه لا تتبين لك صورة المعنى الذي هو معنى الفرزدق إلا عند آخر حرف من البيت. حتى إن قطعت عنه قوله: هجائيا بل الياء التي هي ضمير الفرزدق لم يكن الذي تعقله منه مما أراده الفرزدق بسبيل لأن غرضه تهويل أمر هجائه والتحذير منه. وأن من عرض أمه له كان قد عرضها لأعظم ما يكون من الشر. وكذلك حكم نظائره من الشعر. فإذا نظرت إلى قول القطامي من البسيط: فهن ينبذن من قول يصبن به مواقع الماء من ذي الغلة الضادي وجدتك لا تحصل على معنى يصح أن يقال إنه غرض الشاعر ومعناه إلا عند قوله: ذي الغلة. ويزيدك استبصاراً فيما قلناه أن تنظر فيما كان من الشعر جملاً قد عطف بعضها على بعض بالواو كقوله من الكامل: النشر مسك والوجوه دنا نير وأطراف الاكف عنم وذلك أنك ترى الذي تعقله من قوله: النشر مسك لا يصير بانضمام قوله: والوجوه دنانير إليه شيئاً غير الذي كان بل تراه باقياً على حاله. كذلك ترى ما تعقل من قوله والوجوه نانير لا يلحقه تغير بانضمام قوله: وأطراف الاكف عنم إليه. وإذ قد عرفت ما قررناه من أن من شأن الجملة أن يصير معناها بالبناء عليها شيئاً غير الذي كان وأنه يتغير في ذاته فاعلم أن ما كان من الشعر مثل بيت بشار من الطويل: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي وقول زياد من الطويل: وإنا وماتلقي لنا إن هجوتنا لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق كان له مزية على قول الفرزدق فيما ذكرنا لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدي معنى وإن لم يكن معنى يصح أن يقال: إنه معنى فلان. ولا تجد في صدر الأبيات ما يصح أن يعد جملة تؤدي معنى فضلاً عن أن تؤدي معنى يقال إنه معنى فلان. ذاك لأن قوله: كأن مثار النقع. . إلى: وأسيافنا ا جزء واحد وليل تهاوى كواكبه بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام وهكذا سبيل البيتين الأخيرين. فقوله كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها جزء وقوله: العناب والحشف البالي الجزء الثاني. وقوله: وإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا جزء وقوله: لكالبحر الجزء الثاني. وقوله: مهما تلق في البحر يغرق وإن كان جملة مستأنفة ليس لها في الظاهر تعلق بقوله: لكالبحر فإنها لما كانت مبينة لحال هذا التشبيه صارت كأنها متعفقة بهذا التشبيه وجرى مجرى أن تقول: لكالبحر في أنه لا يلقى فيه شيء إلا غرق. وإذا ثبت أن الجملة إذا بني عليها حصل منها ومن الذي بني عليها في الكثير معنى يجب فيه أن ينسب إلى واحد مخصوص فإن ذلك يقتضي لا محالة أن يكون الخبر في نفسه معنى هو غير المخبر به والمخبر عنه. ذاك لعلمنا باستحالة أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى المخبر وأن يكون المستنبط والمستخرج والمستعان على تصويره بالفكر فليس يشك عاقل أنه محال أن يكون للحمل في قوله: وما حملت أم امرىء في ضلوعها نسبة إلى الفرزدق وأن يكون الفكر منه كان فيه نفسه وأن يكون معناه الذي قيل إنه استنبطه واستخرجه وغاص عليه. وهكذا السبيل أبداً لا يتصور أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى الشاعر وأن يبلغ من أمره أن يصير خاصاً به فاعرفه. ومن الدليل القاطع فيه ما بيناه في الكناية والاستعارة والتمثيل وشرحناه من أن من شأن هذه الأجناس أن توجب الحسن والمزية وأن المعاني تتصور من أجلها بالصور المختلفة وأن العلم بإيجابها ذلك ثابت في العقول ومركوز في غرائز النفوس وبينا كذلك أنه محال أن تكون المزايا التي تحدث بها حادثة في المعنى المخبر به المثبت أو المنفي لعلمنا باستحالة أن تكون المزية التي تجدها لقولنا: هو طويل النجاد على قولنا: طويل القامة في الطول والتي تجدها لقولنا: هو كثير رماد القدر على قولنا: هو كثير القرى والضيافة لما في كثرة القرى. وإذا كان ذلك محالاً ثبت أن المزية والحسن يكونان في إثبات ما يراد أن يوصف به المذكور والإخبار به عنه. وإذا ثبت ذلك ثبت أن الاثبات معنى لأن حصول المزية والحسن فيما ليس بمعنى محال. بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعليه اعتمادي اعلم أن هاهنا أصلاً أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر آخر وهو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد وهذا علم شريف وأصل عظيم والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: رجل وفرس ودار لما كان يكون لنا علم بمعانيها. وحتى لو لم يكونوا قالوا: فعل ويفعل لما كنا نم الخبر في نفسه ومن أصله. ولو لم يكونوا قد قالوا: افعل لما كنا نعرف الأمر من أصله نجده في نفوسنا. وحتى لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها فلا نعقل نفياً ولا نهياً ولا استفهاماً ولا استثناء. وكيف والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلم فمحال أن توضع اسم أو غير اسم لغير معلوم ولأن المواضعة كالإشارة فكما أنك قلت: خذ ذاك لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه ولكن ليعلم المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف الرجل والفرس والضرب والقتل إلا من أساميها لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل: زيد أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة. وإذا قلنا في العلم واللغات من مبتدأ الأمر إنه كان إلهاماً فإن الإلهام في ذلك يكون بين شيئين يكون أحدهما مثبتاً والآخر مثبتاً له أو يكون أحدهما منفياً والآخر منفياً عنه وأنه لا يتصور مثبث من غير مثبت له ومنفي من غير منفي عنه. فلما كان الأمر كذلك وجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل واسم كقولنا: خرج زيد أو اسم واسم كقولنا: زيد خارج. فما عقلناه منه وهو نسبة الخروج إلى زيد لا يرجع إلى معاني اللغات يكن إلى كون ألفاظ اللغات سمات لذلك المعنى وكونها مرادة بها. أفلا ترى إلى قوله تعالى: " ثم إنا إذا نظرنا في المعاني التي يصفها العقلاء بأنها معان مستنبطة ولطائف ستخرجة ويجعلون لها اختصاصاً بقائل دون قائل كمثل قولهم في معان من الشعر: إنه معنى لم يسبق إليه فلان وإنه الذي فطن له واستخرجه وإنه الذي غاص عليه بفكره وإنه أبو عذره لم تجد تلك المعاني في الأمر الأعم شيئاً غير الخبر الذي هو إثبات المعنى لشيء ونفيه عنه. يدلك على ذلك أنا لا ننظر إلى شيء من المعاني الغريبة التي تختص قائل دون قائل إلا وجدت الأصل فيه والأساس والإثبات والنفي. وإن أردت في ذلك مثالاً إنظر إلى بيت الفرزدق من الطويل: ماحملت أم امرىء في ضلوعها أعق من الجاني عليها هجائيا فإنك إذا نظرت لم تشك في الأصل والأساس هو قوله: وما حملت أم امرىء وأن ما جاوز ذلك من الكلمات إلى آخر البيت مستند إليه ومبني عليه وأنك إن رفعته لم تجد شيء منها بياناً ولا رأيت لذكرها معنى بل ترى ذكرك لها إن ذكرتها هذياناً. والسبب الذي من أجله كان كذلك أن من حكم كل ما عدا جزءي الجملة الفعل والفاعل والمبتدأ. الخبر أن يكون تحقيقاً للمعنى المثبت والمنفي. فقوله: في ضلوعها يفيد أولاً أنه لم يرد في الحمل على الإطلاق ولكن الحمل في الضلوع. وقوله: أعق يفيد أنه لم يرد هذا أحمل الذي هو حمل في الضلوع أيضاً على الإطلاق ولكن حملاً في الضلوع محموله أعق من الجاني عليها هجاءه. وإذا كان ذلك كله تخصيصاً للحمل لم يتصور أن يعقل من دون أن يعقل نفي الحمل لأنه لا يتصور تخصيص شيء لم يدخل في نفي ولا إثبات ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به والنهى عنه والاستخبار عنه. وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه ويراجع فيها لبة فاعلم أن الفائدة في العلم بها واقعة من المنشىء لها صادرة عن القاصد إليها وإذا قلت في الفعل إنه موضوع للخبر لم يكن المعنى فيه أنه موضوع لأن يعلم به الخبر في نفسه وجنسه ومن أصله وما هو. ولكن المعنى أنه موضوع حتى إذا ضممته إلى اسم عقل منه ومن الاسم أن الحكم بالمعنى الذي اشتق ذلك الفعل منه على مسمى ذلك الاسم واقع منك أيها المتكلم.
|